منذ ما يقارب الاربعة
عشر قرناً مضت من الزمن ولايزال العقل البشري يكتشف كل يوم بعداً جديداً لتلك الثورة
التي غيرت مجرى التاريخ .. تلك الملحمة التي وقعت في صحراء كربلاء لتبث روح الحياة
في هذا الوجود . وكل هذا لم يكن بعيد عن التدبير الالهي وقد اعلن الشيطان حربه على
مشروع الخلافة الانسانية في الارض (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) فكان الوعد الالهي لهذا العدو
بالخسران والفناء (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) فكانت من اعظم آثار تلك الثورة
ومن أولى تلك الاثار أن حددت أولئك العباد المخلصين .
ومنذ بدء الخليقة
وانطلاق مشروع السماء في التأسيس لتلك الخلافة واعلان الحرب من قبل الشيطان وجنوده
على هذا المشروع كان تجري عملية التمهيد للواقعة الكبرى .. الواقعة الفصل بين الحقيقتين
حقيقة الايمان وحقيقة الكفر والاستكبار فنجد أن الله ما بعث نبي او رسول الا وقد عرض
عليه قضية الإمام الحسين عليه
السلام وما سيجري عليه، ذلك العرض الذي يعطي لأولئك الانبياء والرسل
القوة والعزيمة والصبر وعدم الجزع على ما سيجري عليهم وما سيحدث من تكذيب لهم وانحراف
عن الصراط المستقيم، فان قضية قيام دولة العدل لن يحسم خلال مسيرتهم الرسالية، بل أن
الواقعة الحاسمة هي في كربلاء، تلك التي ستخوضها النخبة المختارة من قبل السماء لحسم
المعركة الوجودية التي ستجتمع فيها كل الرسالات وكل الانبياء في شخص الحسين عليه السلام وعياله وانصاره
ليبرز الايمان كله الى الشرك كله .
فهذا آدم عليه
السلام يتلقى كلمات من ربه لينكسر قلبه حزيناً حين يذكر اسم الحسين عليه السلام حين رأى ساق العرش
وأسماء النبي والأئمة عليهم
السلام فلقنه جبرئيل أن قل : يا حميد بحق محمد ، يا عالي بحق علي
، يا فاطر بحق فاطمة ، يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان . فلما ذكر الحسين سالت
دموعه وخشع قلبه ، وقال : يا أخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي ؟ قال
جبرئيل : ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب ، فقال : يا أخي وما هي ؟ قال :
يقتل عطشانا غريبا وحيدا فريدا ليس له ناصر ولا معين ، ولو تراه يا آدم وهو يقول :
واعطشاه وآ قلة ناصراه ، حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يجبه أحد إلا
بالسيوف، وشرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحله أعداؤه وتشهر رؤوسهم هو
وأنصاره في البلدان، ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنان، فبكى آدم وجبرئيل
بكاء الثكلى. فكان اول مأتم يقيمه الانبياء على الحسين عليه السلام في رحلة التدبير
اللهي لمشروع الخلافة في ارضه وملكه العظيم .
وهذا نبي الله
نوح عليه السلام يقيم مأتم الحسين
عليه السلام وذلك لما وصلت
السفينة فوق أرض كربلاء ومحل طوفان سفينة أهل البيت عليهم السلام ، أخذتها الأرض فخاف
نوح الغرق ، فقال : إلهي طفت الدّنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض .
فنزل جبرائيل عليه السلام بقضية الحسين
عليه السلام ، وقال يقتل في
هذا الموضع، فبكى نوح عليه
السلام وأصحاب السفينة ، ولعنوا قاتله ومضوا.
وهكذا بقية الانبياء عليهم السلام الواحد تلو الآخر
ما كانت لتتم رحلته مع رسالة ربه الا بالمرور على قضية الحسين عليه السلام لا ليؤكد على
التصبر في تلك الرحلة الشاقة بالحسين عليه السلام ومصيبته فحسب
بل للإعداد لتلك الواقعة الفصل .. تلك الواقعة
التي ستدق الركيزة المحورية في تثبيت مشروع السماء الذي سيختم بإقامة دولة العدل الالهي
.
وعلى يد الرسول
العظيم كان بداية التمهيد وبداية الثورة الحسينية الحقيقية حيث بُعث الرسول محمد صلّ الله عليه وآله في بيئة كفر وشرك
وجاهلية مقيتة مما جعل من مهمته الرسالية شاقة ومعقدة فكانت يد القدرة تدبر الامر كله
للتعامل مع دسائس الشيطان وجنوده من المنافقين فكان صلّ الله عليه وآله يمهد لتلك الثورة
بتشريع الولاية من بعده لخليفته أمير المؤمنين وابناءه المعصومين ومنهما الحسن والحسين
عليهم السلام لإقامة الحجة
في شرعية اي ثورة للدفاع عن تلك الولاية .
ولتوسيع دائرة
البدائل الاستراتيجية التزاماً بقاعدة الاسباب والمسببات في التعامل مع كيد الشيطان
ومؤامرات المنافقين التي تجتهد لاغتيال ذلك المشروع فكان مما قاله بحقهم عليهم السلام: الحسن والحسين
إماما حق قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما . أي ان على الأمة وجوب طاعتهم سواء
كانوا يحكمون في دولة ظاهرة أو لا، فضلاً عن عشرات الاحاديث التي وردت عنه صلّ الله عليه وآله تؤكد هذا المفهوم
وهنا وبعد وفاة النبي محمد صلّ
الله عليه وآله كانت قد لاحت الفرصة لمحو هذا المشروع من الوجود
وقد بانت تباشير انتصارهم .. ولكن أنى لهم ذلك والتدبير الإلهي يحيط بهم علماً
وقدرة حيث كانت كل الخيارات متاحة أمام امير المؤمنين عليهم السلام لتحقيق الغاية
بتأسيس دولة الحق في قلب كل انسان طوعاً ورضى وليس دولة ظاهرة في كيانها وحدودها
فقط بل تعد الثانية نتيجة حتمية للأولى لا تتحقق دونها.
فبدأت حلقة جديدة
في دائرة الصراع وكان امير المؤمنين علي عليهم السلام يدير كل شيء بروية
وهدوء ويؤسس لكل ما سيجري من بعده دون أن يقف عند قضية دفعه عن الاستمرار بقيام دولة
الرسول العادلة وقيادتها وقد شعر المنافقون بالبعد العميق والتدبير العظيم الذي تكفل
به امير المؤمنين عليهم
السلام الذي يملك إرثاً ضخماً من وصاياً الرسول صلّ الله عليه وآله بكونه هو الاعلم
والاحكم والأروع وهو حبل الله وعروته الوثقى وهو مدينة العلم والقائد المظفر بالنصر,
والمدعوم أيضاً بنصوص قرآنية وإعلان رسمي بتوليه لمنصب إمامة الامة وقيادتها {إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }المائدة55.
وهكذا وبعد أن
تخاذل الناس عن أمير المؤمنين عليهم السلام وعن نصرته فما كان منه عليهم السلام إلا أن يعتزل
الناس في تحفظ ذكي بل وعبقري من أمير المؤمنين عليهم السلام لتثبيت حقيقة
بطلان حكم هؤلاء وسطوهم على كرسي قيادة الامة الاسلامية , مما جعل من تسلق اليها بغير
حق يدرك ان بقاء ممانعة الامام أمير المؤمنين عليهم السلام وعدم اعترافه
بسلطتهم يجعلهم على شفى الهاوية, اذ لا يمكن إحراز بقاء الناس تحت سلطانهم المسروق
في الوقت الذي لا يزال أمير المؤمنين عليهم السلام موجوداً بين احضان
أمّة أخيه رسول الله صلّ
الله عليه وآله. فكانت إرادة المنافقين تنحصر في القضاء المبرم
على أمير المؤمنين عليهم
السلام محاولين وبشتى السبل التخلص منه فلم يجدوا الى ذلك سبيلا.
وهنا وصل بهم التسافل
الذي لم يكن يراعي أي اعتبار لأخلاقيات العرب فضلاً عن القيم الإسلامية التي كان يدّعونها
, سالكين سبيلاً لا يمكن لأمير المؤمنين عليهم السلام إلى أن يقع في
حبائل هذا المخطط وفق الرؤيا القاصرة لأولئك المنافقين لدفعه عليهم السلام الى سلِّ سيفه
لأجل إيجاد الحجة لقتله وبذلك يكون الطريق ممهداً لإنهاء المشروع الالهي.
فكانت الزهراء عليهم السلام الضحية لهذا المخطط في جرأة واضحة على الاسلام وعلى الله وعلى رسوله صلّ الله عليه وآله. فتهافت المنافقون
على دارها محاولين إحراق الدار مستفزين أمير المؤمنين عليهم السلام في عرضه وعرض
رسول الله صلّ الله عليه
وآله ضناً منهم أنه سلام الله عليه سيجرد فيهم سيفه ليقولوا خرج
علي على الخلافة وبذلك يألبوا الناس على قتله كي يتحقق المراد من هذا الفعل، ولكن خاب
فألهم وخسروا خسراناً عظيما فبفعلهم هذا نجح أمير المؤمنين عليه السلام في كشف وإثبات
حقيقة هؤلاء وحقيقة الغدر برسول الله صلّ الله عليه وآله الذي كثيراً ما
قال في شأن الزهراء عليه السلام ما يثبت ارتباطها
بالأسرار الالهية.
وهكذا أخذوا بيعة
من أمير المؤمنين ما أرادوها أن تكون لأنها بيعة بالإكراه وبشكل واضح وبين جماهير المسلمين
مما أسس أول ارتباط حقيقي برسول الله ورسالة السماء بشكل واضح لا لبس فيه عبر علي ابن
ابي طالب عليه السلام.
واستمرت بعد ذلك دوران رحى الحرب الباردة بين
اتباع مشروع دولة السماء وبين اتباع مشاريع الرغبات الشخصية وعشاق الدنيا فكانت
الفجوة تزداد بتغير الشخوص في رأس قيادة الدولة الموروثة عن رسول الله حتى وصل
الأمر الى الخليفة الثالث وازداد الضغط الجماهيري نتيجة ازدياد الانحراف عن المسار
الذي رسمته السماء لبناء الدولة العادلة فكانت تلك الثورة التصحيحية لتأتي بعلي
ابن ابي طالب عليه السلام الى مقعد الخلافة الرسمي بانتخاب جماهيري وبإرادة
ذات الشعب الذي تخاذل عن نصرته فوجد امير المؤمنين عليه السلام تركة صعبة وتمرد عنيف من هنا وهناك فمرة
يقاتل الناكثين واخرى يواجه القاسطين ليختم جهاده بحرب المارقين, كل هذا وعينه على
الخاتمة، وهو يمهد لذلك وفق الظروف والمستجدات ووفق افضل الخيارات الاستراتيجية لديمومة
المشروع لينهي حياته في رحاب الله وفي فيض ملكوته وهنا وجدت الأمة نفسها على مفترق
طرق في الوقت الذي لايزال معاوية ينهش جسد الأمة التي بذل امير المؤمنين عليه السلام مهجته في لملمة اوصالها، في الوقت الذي تمكن
حب الدنيا من سلب قلوب الرجال واذابت عقولهم وهنا كان التدبير من الإمام الحسن عليه السلام في التهيئة للثورة وفق القواعد الجديدة بعد
ابتعاد الناس عن شريعة السماء وانصياعهم لشيطان النفوس وبيعهم لآخرتهم بدنيا غيرهم،
فكانت الهدنة بينه وبين رأس الشر معاوية والتي كانت نتيجة الظروف آنفة الذكر ليؤسس
عليه السلام لشرعية ثورة كربلاء من وجهين لا يمكن لأحد
تجاوزهما، الاول هو شرعية السماء بوصية الرسول الكريم في خلفاء الأمة الاثني عشر،
والثاني شرعية الاتفاق والعهود والزام المرء بما الزم به نفسه حيث كانت الهدنة قد
جردت دولة الشر من شرعية بقاءها وان ضمنت لها وجوداً دنيوياً مؤقتاً حتمته الظروف آنفة
الذكر ولكنها زائلة بزوال ملك معاوية .
وهذا ما دفع معاوية الى التعجيل بالتخلص من
الإمام الحسن عليه السلام وهذا لم يكن ينفعه في تغيير بنود تلك الهدنة
التي نزعت عن معاوية حق الوصاية من بعده بل لم يكن له ذلك كي تنزعه عنه والولاية
لله ولرسوله ولأولي الأمر حيث اوجبت عودة الخلافة الى الامام الحسن أو الحسين عليهما السلام.
وبهذا كانت الهدنة الموقعة قد وضعت واحدة من
ركائز نسف دولة الشيطان والتأسيس لدولة العدل عبر الخيار الاستراتيجي الثوري
متمثلاً بثورة الشهادة التي قادها الإمام الحسين عليه السلام إذ أن هذا الخيار كان يحمل ابعاداً
استراتيجية عميقة الأثر والتي لانزال حتى يومنا هذا نعيش في ظل آثارها .
حيث أن هذا الخيار لم يكن ترفاً ولم يأتي
كردة فعل عاطفية بل كان نتيجة حتمية للانحراف الكبير الذي وصلت اليه الطغمة
الأموية الحاكمة حيث الاستهتار بالقيم الدينية الاساسية التي تمثل شخصية الدولة
الاسلامية مما جعل من ضرورة التصدي لهذا الانحراف بذات المستوى أمراً لا بديل له ،
فكان لابد من تلك الدماء الطاهرة وذلك السبي لحرم رسول الأمة لكشف حقيقة تمرد
الاموين وخروجهم عن الاسلام بشكل صريح ولإسقاط شرعية تلك الدولة كدولة اسلامية حيث
كان ذلك اهم واعظم النتائج المتحققة من الثورة، إذ أن نزع صبغة الاسلام عن تلك
الدولة كان يؤدي الى تسليط الضوء على الدولة الشرعية التي كانت قائمة حينها
وبقيادة أئمة الأمة المنصبين من قبل الله حيث كانت تمثل دولة الظل التي يتوجب على
الناس الاقرار بوجودها والامتثال الى توجيهاتها عن ايمان وقناعة حيث تمثل الحاكمية
الالهية الوحيدة على وجه الأرض .
نعم فقد حققت ثورة الامام الحسين عليه السلام اهدافها الخالدة بتثبيت حقيقة ما اسس له
الرسول العظيم صلّ الله عليه
وآله في يوم الغدير لتظهر معالم الدولة الخفية ونظمها وآليات العمل فيها وآثار
وجودها وامتداداتها وعمق ارتباطها بالسماء وكيفية الحياة في ظلها وكذا قوانينها
الحاكمة ومصادرها التشريعية، كما قد حددت السبل والبدائل الاستراتيجية في التعامل
مع الدول الظاهرة والفاقدة للشرعية الالهية في ظل التمهيد لإعلان ظهور الدولة
الخفية على يد آخر الخلفاء الإمام الحجة المنتظر عليه السلام, حيث منعت الخروج
لتأسيس الدولة الظاهرة أو الحكم باسم الله في دولة ظاهرة قبل تحقق كل الظروف
الاجتماعية والسياسية وعلى المستوى الكوني, وبينت أن تحقق هذا يكون في عهد الإمام
المهدي عجل الله فرجه وحين تحقق ذلك سيبادر الى اعلان ثورته مستنداً الى ثورة جده
الإمام الحسين عليه السلام وبذات الشعارات الاصلاحية التي كانت وستبقى
متجددة في كل عصر ومع كل نظام, وكما وبينت الحدود التي يمكن لرعايا تلك الدولة
الخفية العمل في إطارها للدفاع عن وجودهم القيمي والاجتماعي ودفع الظلم عنهم بما
لا يتجاوز حد الالتزام بقواعد العمل الشرعية في تلك الدولة.
وهكذا فقد كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام خالدة بتأسيسها لديمومة وجود الدولة الالهية
بشكلها الخفي مما سلب من اعدائها أدوات اعلان الحرب على هذه الدولة وكذا سلب منهم
شرعية وجودهم كدول حاكمة بالقهر والاجبار, ومما تقدم نستنتج العمق الاستراتيجي
لثورة الامام الحسين عليه
السلام وما احاط بها من تدبير وحماية الهية حتى يأتي اليوم الموعود لقيام دولة
العدل وفرض سلطانها العادل لتملئ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجورا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق