السبت، 21 أبريل 2018

الطريق الى صياغة برنامج انتخابي واقعي





في خضم الصراع الانتخابي الذي وصل في بعض الاحيان الى درجة الضرب تحت الحزام ما بين المتنافسين وكأن البعض منهم يرى انه يخوض نزال حياة أو موت حتى صار الناخب العراقي يشعر بحالة من التيه ولا يدري من ينتخب حيث كثرت الوعود وارتفع مستوى الشعارات الطنانة التي تتغنى بالمستقبل المشرق والحياة المثالية في عالم اقرب ما يكون الى عالم ملكوتي .. في ذات الوقت حينما تسأل المرشح عن برنامجه الانتخابي أو برنامج الكتلة التي ينتمي لها يسرد لك كل تلك الوعود والشعارات التي تحدثنا عنها دون الالتفات الى مدى امكانية تطبيق كل تلك الشعارات ولا الى الادوات التي سيعمل عليها لغرض تحقيق تلك النتائج التي يعد بها ومدى ملائمتها للوضع العراقي في مختلف جوانبه الأمنية والسياسية والاقتصادية فضلاً عن الواقع الاجتماعي.
لذا بات من الضروري ان نتحدث عن مفهوم البرنامج الانتخابي والخطوط العريضة التي ينبغي العمل عليها في أي برنامج من هذا القبيل.
قبل البدء بالحديث عن تفاصل ومحتويات البرنامج الانتخابي لابد لنا ان ندرك طبيعة العمل والصلاحيات التي يملكها صاحب البرنامج ففي الوضع العراقي فان التنافس في الانتخابات يجمع ما بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أي أن من يفوز بأغلبية اصوات الناخبين يكون ملزم بالوعود التي قطعها كونه قد فاز بالسلطتين التشريعية والتنفيذية حيث ان الاغلبية في البرلمان هي التي تشكل الحكومة وهي القادرة على تمرير مشاريع القوانين التي تولد في الرحم الحكومي
لذا على اصحاب البرامج الانتخابية في العراق ان تكون برامجهم اكثر شمولية وان يبني البرنامج على سلسلة من الخطوات المتتابعة ولكن قبل الحديث عن تلك الخطوات علينا ان ندرك أن البرنامج الانتخابي هي خطة شاملة لإدارة البلد خلال السنوات الأربع القادمة علماً ان من الافضل ان يكون الطموح أكبر ليمتد على مدى ابعد من فترة انتخابية واحدة واضعا رؤية شاملة لما يريد تحقيقه وكذلك السياسات والاستراتيجيات التي سيعمل بها لتحقيق تلك الرؤية ، وهنا قد يقول قائل ان الخطط الاستراتيجية القومية لأي دولة تضعها المؤسسات المختصة بذلك وهذا صحيح ولكن علينا ان ندرك أن تلك المؤسسات تضع الخطط التفصيلية الدقيقة لكل مفصل من مفاصل الدولة واما الرؤية الشاملة فهي تكون بناءً على التوجهات الحكومية للقوى السياسية الحاكمة على تلك المؤسسات وبناءً على ما تقدم ولوضع برنامج انتخابي ناجح ويتفق مع الواقع لابد من اتباع الخطوات التالية
الخطوة الاولى : دراسة تطلعات المجتمع ، ففي النهاية الأهداف التي يراد تحقيقها من المفترض ان تحقق رضى افراد ذلك المجتمع فإن لم تكن تلك الاهداف متوافقة مع تطلعاته لم ولن تحقق له الرضا المنشود ، وهذا يعني لابد من دراسة تلك التطلعات لكافة فئات المجتمع دون التفريق بين طبقاته سواء كانت فقيرة جداً أو برجوازية فضلاً الطبقات الوسطى على لا يقتصر الامر في تقسيم المجتمع اثناء دراسة تلك التطلعات على الفروقات الطبقية بل لابد من الاخذ بنظر الاعتبار التنوعات والتباينات الاخرى على مستوى الجنس والعمر والمهنة بحيث لابد ان تكون هناك موائمة بين تلك التطلعات وأن لا يحدث التقاطع بينها بحيث تؤسس لمنظومة اجتماعية متفاعلة ايجابياً وبناءة .
الخطوة الثانية: توضيح النظريات والمسارات الفكرية ، إن اي اجراءات تنفيذية لابد ان تبتني على اسس نظرية واضحة فمثلاً حينما نتحدث عن تطوير الجانب الاقتصادي والمالي فماهي النظريات التي ستعتمدها في هذا التطوير هل سيتم اعتماد النظرية الرأسمالية او غير ذلك من نظريات سواء الاشتراكية أو الاسلامية وهذا سيترك آثاره الواسعة على الاقتصاد فاقتصاد السوق والانفتاح على العالم يختلف عن السيطرة الحكومية على السوق والتحكم بحركته ...
الخطوة الثالثة : تحليل البيئة الداخلية والخارجية للدولة وتحديد اهم عناصر القوة في البيئة الداخلية التي يمكن الارتكاز والبناء عليها وفي مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع التفحص الدقيق لعوامل الضعف التي من الممكن عوائق واقعية لا يمكن التخلص منها في الافق المنظور والتي تعرقل تحقق الاهداف ان لم تلحظ بعين الاعتبار تلك العوامل هذا فضلاً عن دراسة البيئة الخارجية سواء كانت في المحيط الاقليمي والعالمي أو ضمن المحيط الوطني ولكن خارج سيطرة المنظومة الحكومية لغرض تجنيد تلك الفرص غن كانت متوفرة في خدمة الاهداف التي ستوضع لاحقاً وفقاً لهذه العوامل الاستراتيجية سواء في البيئة الداخلية أو الخارجية فضلاً عن تحديد التهديدات ووضع الاحترازية مع التحرك للتقليل من أثر تلك التهديدات التي قد تحول دون الوصول الى تحقيق الاهداف المنشودة .
الخطوة الرابعة : بعد دراسة البيئتين الداخلية والخارجية يتم تدوين أهم عوامل الازدهار والتأزم المحتملة ووضع الأولويات الاستراتيجية والتحديات الاستراتيجية بناءً على نتائج الخطوة السابقة .
الخطوة الخامسة : البدء بوضع الاهداف والاتجاهات والسياسات والاجراءات والتصورات المزمع القيام بتنفيذها خلال المرحلة التي ستشغل فيها القائمة أو الحزب مقاليد الحكومة التنفيذية والاغلبية البرلمانية مع الالتفات الى أنه في حال فشلت القائمة من الوصول الى الاغلبية وعدم تمكنها من تشكيل الحكومة فهذا لا يعني بأي شكل من الاشكال إخلاء مسؤوليتها عن السعي في تحقيق فقرات برنامجها الانتخابي سواء عبر الحوار والتفاوض والاقناع أو عبر تشكيل التحالفات الانتخابية أو عبر تحشيد الرأي العام لتشكل قوة ضاغطة باتجاه تنفيذ اهدافها أو بعض تلك الاهداف على أقل تقدير.
هذا ويمكن صياغة هيكل الاهداف الاستراتيجية المزمع تحقيقها وفق البرامج الانتخابية عبر توزيعها على ثلاث محاور أساسية وكالآتي
أولاً : السياسات الاقتصادية ، ويقع تحت هذا البند جميع القضايا والملفات المتعلقة بالنظام الضريبي والنظام المصرفي والاستثمار الاجنبي والمحلي والسياسات الاقتصادية المرتبطة بالتجارة والصناعة والزراعة وفي ما يخص بلد مثل العراق فان لملف النفط والغاز أولوية استراتيجية وضرورة تحديد التوجهات في هذا الملف فيما اذا سيكون باتجاه زيادة الانتاج النفطي الخام أم تثبيت الانتاج مع التركيز على زيادة انتاج المشتقات النفطية وغيرها من القضايا الاقتصادية المتشعبة.
ثانياً : السياسات الاجتماعية ، ويقع تحت هذا البند الكثير من الملفات المهمة من قبيل ملف التربية والتعليم العالي والملف الصحي والبيئي وقضايا الفقر والضمان الاجتماعي وتشغيل واستثمار الموارد البشرية لحل مشكلة البطالة ومعالجة الازمات النوعية الاخرى من قبيل ازمة العنوسة والطلاق والترمل في دولة مثل العراق وازمة الخلافات العشائرية وهذه ملفات خاصة تحتاج الى حلول جذرية كي لا تتحول الى قضايا مركبة ومعقدة يصعب حلها.
ثالثاً : العلاقات الدولية ، ولهذا البند من الأهمية ماله كونه يعمل كأحد الوسائل الاستراتيجية لخدمة تحقيق الاهداف والغايات ضمن المحورين السابقين ، نعم فلا بد من ان تكون طبيعة العلاقات الدولية محسوبة بعناية فائقة بحيث تصب في تحقيق تلك الغايات فتقدم مصلحة البلد والشعب على مصالح الآخرين دون الاضرار بمصالح أولئك الآخرين كي لا تتحول تلك العلاقات القوية الى علاقات رخوة قابلة للانهيار في أي اختبار قد تتعرض له أو أزمة مفاجئة فمثلاً في حالة العراق فان بعض القوى تذهب باتجاه الانخراط كذنب ضمن التحالف الايراني الروسي حتى أنهم لم يلتفتوا الى أن يكوا كأحد الرؤوس المدبرة لمثل هذا التحالف في قبال ذلك نجد قوى أخرى ترى ضرورة بناء علاقات ايجابية مع جميع القوى العالمية على أساس أن مصلحة العراق أولاً والابتعاد عن سياسة المحاور وتصفير واغلاق المشاكل والملفات العالقة التي تحول دون مد الجسور وبناء العلاقات التي تصب في صالح تحقيق الرؤيتين الاجتماعية والاقتصادية .
هذا وفي حالة دولة مثل العراق تعيش وضع غير مستقر وبناء على الخطوة الأولى من البرنامج المتعلقة بدراسة تطلعات الراي العام قد تتولد الحاجة الى اضافة محاور أخرى تعد اساسية في مثل هذه المرحلة وكالآتي .
أولاً : الملف الدستوري ، حيث أن واحدة من أهم الاشكالات التي يعيشها العراق الآن هي الاليات الدستورية لتشكيل الحكومة إذ بات الغالبية العظمى من ابناء الشعب يرغبون بالنظام الرئاسي بعد أن وجدوا انفسهم ضائعين في ظل النظام الانتخابي الحالي هذا فضلاً عن مشاكل دستورية أخرى فيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين حكومة المركز والاقاليم الفيدرالية وطبيعة الصلاحيات والسلطات التي تمنح لحكومات تلك الاقاليم اضافة الى مشكلة المناطق المتنازع عليها والتي باتت كالنار تحت الرماد من الممكن أن تشتعل في حال أصبح الظرف مؤاتي لهذه الجهة أو تلك، وغيرها من الاشكالات الدستورية التي يجب على كل قائمة ذات برنامج انتخابي ان توضح رؤيتها فيما يتعلق بمثل هذه الموضوعات.
ثانياً : الملف الامني ، حيث نجد اليوم حالة من الفوضى الامنية التي تضرب العراق طولاً وعرضاً وقد نجد هذه البحبوحة المؤقتة من الاستقرار الوهمي الذي تكون نتيجة التوافق بين القوى الأمنية الحاكمة وتوازن القوى ولكن إن اختل التوازن في ميزان القوة فسنقبل على صراعات تعيد البلاد الى المربع الأول ايام الارهاب والحرب الأهلية إذ نجد المليشيات الحزبية متسلحة بمختلف انواع الاسلحة الثقيلة فضلاً عن الخفيفة وهي خارج سلطة الدولة وكذلك اليوم نجد قوى اجنبية متغلغلة في مؤسسات أمنية من المفترض أن تكون وطنية في حين نجد أن فيلق القدس الايراني بقيادة قاسم سليماني له القرار في تحريك تلك القوى وهناك شواهد تاريخية تثبت ذلك في معركة اقتحام تكريت وغيرها من الشواهد والدلائل ، لذا لابد ان تعلن كل القوائم ضمن برنامجها الانتخابي وجهة نظرها بشكل تفصيلي دون الاكتفاء برفع شعار حصر السلاح بيد الدولة فكما قلنا فان هناك قوة تابعة لدولة اجنبية ضمن القوات الأمنية الوطنية.
ثالثاً : ملف الفساد ، وهذا يعد من أهم الملفات وأكثرها خطورة وهو الملف الذي يحتاج الى توضيح عميق للسياسات والأساليب التي سيتم اتباعها في محاربة الفساد ولا يكفي فقط رفع شعار محاربة الفساد كونه بات شعاراً مبتذلاً للغاية ، لذا من الضروري توضيح الآليات ابتداء بملفات الفساد المقننة بقوانين من قبيل مخصصات ومرتبات البرلمانيين والرؤساء والوزراء والحمايات والمنح المتعلقة بتحسين الواقع المعيشي لأولئك البرلمانيين، وصولاً الى الكيفية التي سيتم بها ملاحقة السرقات الكبرى وخاصة تلك التي تم تمريرها عبر قانون العفو العام وما شابه ذلك
وفقاً لكل ما تقدم شرحه لا يمكن وضع برنامج انتخابي بين ليلة وضحاها وهذا ما تابعته من قبل بعض المرشحين حيث نجد البعض يحاول كتابه برنامجه الانتخابي وفق أوهام وخيالات التي لا تستند على أسس موضوعية ومعلومات وبيانات احصائية دقيقة .. لذا فلا يمكن أن يكون البرنامج الانتخابي ملامس لحقيقة تطلعات المجتمع ويأخذ بنظر الاعتبار كل الحقائق الموضوعية في بيئة ذلك المجتمع ليكون الحزب قادراً بحق على تحقيق تلك الغايات والاهداف التي يعد بها جماهيره.

الأربعاء، 29 مارس 2017

احجز لك مقعداً في سوق النجاح



حينما نتحدث عن النجاح نجد أن الاغلب يتبادر الى ذهنه مفهوم معين عنه؛ ألا وهو تحقيق الاهداف التي رسمها لنفسه ذلك الفرد أو تلك المؤسسة، وقد يكون هذا المفهوم صحيحاً نوعاً ما اذا ما التفتنا الى تلك الأهداف على انها جزء لا يتجزأ من الأهداف الكلية التي يؤمن بها ذلك الفرد أو تلك المؤسسة، ولكن في الأغلب لا يحدث ذلك الالتفات، لذا بات من الضروري أن نضع تعريف اكثر دقة لمفهوم النجاح، وهو على ما اعتقد تحقيق الأهداف الكلية التي تشكل الرؤية الشاملة في إطار القيم التي يؤمن بها الفرد أو المؤسسة والتي لا تتعارض مع المنظومة الاخلاقية الانسانية.
إن التعريف السابق يؤكد على أن النجاح الشخصي لا يمكن أن يكون نجاحاً مؤثراً في البيئة المحيطة وبالتالي بالأمة الا اذا اخذنا بنظر الاعتبار الرؤية الشاملة والقيم الانسانية والاخلاقية للمجتمع كي تتحول تلك النجاحات الى استجابات ايجابية بناءة تساهم في التقدم التراكمي كنتيجة حتمية لتلك النجاحات.
من تلك المقدمة عن النجاح نعيد تسليط الاضواء على الواقع الحالي للأفراد الذين يكونون المجتمع وبالتالي المؤسسات التي يقومون ببنائها كأجزاء تشكل ذلك المجتمع، فنجد انفسنا امام واقع مأساوي للغاية، إذ أننا لو التفتنا الى المؤسسة التي تؤهل الافراد الى سوق العمل بالجانب الاخلاقي والتعليمي والمتمثلة بالعملية التربوية والتعليمية التي تتبناها مؤسسات وزارة التربية وتلك التي تؤهله بالجانب الوظيفي والمهني والمتمثلة بالمؤسسات التابعة لوزارة التعليم العالي فإننا سنصاب بخيبة الأمل، اذا ما علمنا أن العراق بات من اسوء الدول في انظمته التعليمية الحالية، بمكونيه؛ التعليم الاساسي والتعليم العالي، إذ باتت مخرجات هاتين المؤسستين لا تصلح للعمل في الاسواق الحالية التي تبحث عن افراد يتميزون بالمهارات المتقدمة في مجالات جديدة لم تنجح تلك المؤسسات في مواكبتها، مما يجعل السوق متضخم بمئات الآلف من العاطلين عن العمل وغير المؤهلين للدخول الى تلك الاسواق، كونهم ورغم إنفاقهم مالا يقل عن ثمانية عشر عاماً من أعمارهم على أقل تقدير، ومليارات الدولارات من الاموال الخاصة والعامة في عملية التربية والتعليم وإكساب المعارف وبناء المهارات كما يفترض بها أن تكون، الا انها لم تنجح في تحقيق تلك الغايات، بل انها باتت تتخبط في اطلاق عناوين معرفية عبر افتتاح اقسام علمية جديدة أو تزيد من افتتاح اقسام اضافية لعناوين باتت الحاجة اليها منتهية، وهذا يعني عملية قتل حقيقي لمستقبل هؤلاء الافراد، ومن دون دراسة حاجة السوق للأيدي العاملة المدربة وفق توجهات الاقتصاد العراقي الحالي  والمستقبلي.
ومن هنا فهل هذا يسقط مسؤولية الفرد عن ذاته ..إن الاستمرار في رمي الكرة في ملعب المؤسسة الحاكمة وإن كان صحيحاً، كونها هي المسؤولة الأولى عن الافراد المكونين للمجتمع، الا أنها لن تكون الأخيرة بأي حال من الأحوال فإن الانسان على نفسه بصيرة، لذا بات لزاماً عليه ان يعمل لأجل الارتقاء بمؤهلاته العلمية ومهاراته العملية ليكون قادراً على أن يخلق لنفسه فرصة في سوق العمل، وإن تمكن من تلك الفرصة عليه أن لا يتوانى في بناء وتطوير ذاته، فالمعرفة لن تتوقف والتقدم التقني لن يتوقف، مما يلزمنا بمواكبة هذا التقدم للحفاظ على المكتسبات، رغم أن الحفاظ على تلك المكتسبات يعد خسارة بمفهوم التنمية، إذ لابد من استدامة التقدم في كل الجوانب الحياتية، سواء كانت مهنية أو اجتماعية أو اقتصادية أو بشكلها الاجمالي الذي يمكن أن نقول عنه أنه الجانب المؤسس لبقية جوانب الحياة وهو الجانب المعرفي.
ومن كل ما تقدم علينا أن لا نعتقد بكوننا أصبحنا مؤهلين لاقتحام سوق العمل وصناعة النجاح بمجرد الحصول على الشهادة الجامعية حتى وإن كانت بمستوى الدكتوراه، مالم نتسلح بالمهارات الشخصية والمهنية والتقنية واللغوية، التي لن نجدها الا في المؤسسات التدريبية الرصينة، والتوجه لها بعد التمحيص عن الأفضل والاكفأ، لكي لا يكون تكرار لتلك التجارب الجامعية البائسة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

الخميس، 13 أكتوبر 2016

الطربوش العثماني وولاية الموصل

وصل التصعيد التركي العراقي الى مراحل خطيرة بعد التصريحات غير الاخلاقية من قبل الرئيس التركي والتي تعدى فيها على هيبة وسيادة العراق مما يثير الشكوك حول الدوافع التركية أزاء هذا التصعيد ويمكن تفسيرها بعدة احتمالات نختصرها في النقاط التالية:
الاحتمال الاول أن حكومة الاخوان ممثلة بحزب العدالة والتنمية بقيادة اردوغان تسعى الى توريط الجيش التركي وقياداته العسكرية في حروب خارجية كي تملك الوقت الكافي لتصفية تلك القيادات وذلك من خلال اشغاله بتلك المعارك وهذا بات واضحاً بعد محاولة الانقلاب المزعومة.
الاحتمال الثاني أن تركيا باتت تشعر بفقدانها لكل بيادقها الداعشية في المنطقة وآخرها في محافظة نينوى فتعمل على التصعيد العسكري لعرقلة العملية العسكرية ضد داعش حالياً حتى تعيد ترتيب اوراقها ولأجل أن تهيء البديل الذي يضمن لها مصالحها ونفوذها كما حصل في سوريا فيما يتعلق بعملياتها في جرابلس السورية.
الاحتمال الثالث وهو من الاحتمالات القوية اذ اننا لو راجعنا المواقف التركية وتغيرها ازاء روسيا واعاد ترميم علاقاتها مع الروس جاء بعد تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة الامريكية نتيجة دعم الاخيرة للقوات الكردية (وحدات حماية الشعب الكردي في سوريا) وهذا يعني أن الاتراك لا يريدون أن تكون من نتائج عملية تحرير الموصل حدوث تواصل بين الاكراد واستقرار وترسيخ تواجدهم في المنطقة وخاصة حزب العمال الكردستاني لان في ذلك تهديد للأمن القومي التركي خاصة وانها تخوض حرباً منذ امد طويل ضد قوات حزب العمال الكردستاني والتي لها قواعد في شمال العراق وشمال شرق سوريا.
الاحتمال الرابع وهو جاء كنتيجة للاحتمال الثالث اذ ان تركيا بناء على ما تسعى اليه من تأمين نفوذها تعمل على تأسيس اقليم سني موالي للطربوش العثماني لضمان الحاقه بتركيا في حال تقسيم العراق في المستقل وهو ما صرح به احد المحللين السياسيين الاتراك المحسوبين على حزب العدالة والتنمية الحاكم والذي قال في احد المقابلات التلفزيونية أن من حق تركيا في حال تقسم العراق ان تذهب الى الامم المتحدة للمطالبة بتحديد المصير لأهل الموصل بخصوص التحاقهم بتركيا ومن هذا المنطلق تعمل على تصعيد الحرب الكلامية وتلعب على الوتر الطائفي للدفع بقيام اقليم سني انطلاقاً من هذا التأجيج الطائفي لعملية تحرير الموصل.
بناء على ما تقدم نرى
ضرورة الالتفات الى تفويت الفرصة على اردوغان والحكومة التركية من خلال منع الشحن الطائفي عبر ايقاف التصريحات من قبل قيادات الحشد الشعبي وترك الامر للحكومة. كما إن عدم مشاركة الحشد الشعبي في المعارك الرئيسية وترك الامر لقوات مكافحة الارهاب والجيش العراقي والشرطة الاتحادية والتي اثبتت ولائها للعراق وكفاءتها في خوض المعارك مع بقاء قوات الحشد كاحتياط استراتيجي للدعم والاسناد سيقتل الحجج التي يتبجح بها اردوغان في التخويف من نتائج معركة تحرير الموصل. مع ضرورة جعل معركة الموصل معركة دولية بمشاركة قوات التحالف الدولي عبر قواته الجوية من اجل دعم العراق في أي تطور محتمل مع التواجد العسكري التركي.
بالاضافة الى ماسبق لابد من الالتفات الى تشكيل حكومة الموصل المحلية وتعيين محافظ لها باستخدام الطرق الدستورية والقانونية قبل بدء المعارك لتتولى مهام الحكومة المحلية هناك بعد عمليات التحرير ، وان عجزوا عن ذلك لابد من تعيين قائد عسكري للمحافظة مضمون الولاء للعراق الواحد ومقبول من جميع اطياف اهالي الموصل واعلان حالة الطوارئ في المحافظة حتى تنظيم عملية اختيار حكومة محلية في المحافظة .

الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

الالحاد المزروع

الإلحاد المزروع
 
على ما يبدو أن الدوائر المخابراتية السوداء قد قرأت الساحة الاسلامية جيداً وبدات تلمس الرفض المطلق لداعش وافكار داعش مما يجعل من هذه الحركة ضعيفة وغير قادرة على تجنيد المزيد من الانصار.. كما وأنهم يحاولون حصاد ما زرعوه من تلك التيارات التي بذروها في جسد الأمة والتي كانت بيئتها تحتمل انبات تلك البذور فيها ، لتولد تلك الحركات ابتداءاً من الوهابية وانتهاءً بداعش مروراً بالقاعدة فكانوا خير الابناء لتلك الدوائر السوداوية.
لذا نجدهم اليوم يطلقون العنان للتيار الالحادي بكل ما اوتو من قوة ومن رباط الجهلة.
وهم بذلك يحققون أمرين الأول تحقيق موطئ قدم الحادية في الخارطة الاسلامية، وبذلك لن تضيع جهودهم سدى مما صنعوه من داعش وغيرها وفي ذات الوقت يدفعون من خلال ذلك الى تحقيق الأمر الثاني المتمثل في اعادة بث روح الحياة بتلك الحركات التي باتت تلفظ انفاسها الأخيرة فيبعثوا داعش من جديد بشكل ولون جديد كرد فعل انتقامي لما يقوم به الملحدون من تعدي على الذات الالهية وسط جهل عميق وتفكير سطحي وهكذا يخلقون الدوافع للشباب المدفوع بالعاطفة الاسلامية والشعور بالالتزام تجاه دينه ومقدساته لكي يجندوا انفسهم في حروب تدميرية مما يديم ماكينة الخراب والفوضى في بلاد المسلمين .

الخميس، 30 يونيو 2016

تركيا واعادة صياغة تحالفاتها

يعتقد الكثيرين أن الضغوط الاقتصادية هي التي تقف وراء التغيير الكبير والمفاجئ في السياسات الخارجية التركية في الوقت الذي نجد فيه أن تلك الضغوط كانت قد بدئت نتائجها تظهر ومنذا زمن ليس بالقريب ولم تتغير في حينها تلك السياسات التي تعتمدها الحكومة التركية في ادارة علاقاتها في منطقة الشرق الأوسط .
أن التحركات التركية الأخيرة في اعادة العلاقات مع اسرائيل والاعتذار من روسيا انما جاء نتيجة ادراكها المتأخر لخطورة التطور في الاحداث الجارية في شمال شرق سوريا وتقدم قوات سوريا الديمقراطية وبعد أن باتت تلوح في الافق احتمالية ولادة فيدرالية كردية مما يسبب زيادة في تهديد الأمن التركي، خاصة وهي تخوض حرب لا هوادة فيها ضد حزب العمال الكردستاني على اراضيها . 
لذا فهي تعمل على اعادة ترتيب تحالفاتها من بعد أن وجدت الأمريكيين غير مبالين بهذا التمدد الكردي بل وداعمين له بالمال والسلاح. 
في الوقت الذي تقف فيه روسيا في الجانب الآخر مع بشار الأسد وحلفائه وبحضور قوي قادر على صناعة المتغيرات على الأرض. 
ومن غير المستبعد أن تكون المخابرات التركية يسرت بشكل غير مباشر عملية مطار اتاتورك لكي تخلق لها مبرر مقبول لتعديل مواقفها من الحرب في سوريا والتعجيل بسحق تنظيم داعش وباقي التنظيمات. 
في ذات الوقت ترى أن اعادة بناء العلاقات مع اسرائيل يمكنها من قطع الطريق على التنظيمات الكردية وخاصة تلك التي تحكم شمال العراق من الاستفادة من الدعم الاسرائيلي لها في اقامة الدولة الكردية التي تحلم بها الشعوب الكردية.

السبت، 28 نوفمبر 2015

التدبير الالهي والآثار الاستراتيجية لثورة الإمام الحسين عليه السلام

منذ ما يقارب الاربعة عشر قرناً مضت من الزمن ولايزال العقل البشري يكتشف كل يوم بعداً جديداً لتلك الثورة التي غيرت مجرى التاريخ .. تلك الملحمة التي وقعت في صحراء كربلاء لتبث روح الحياة في هذا الوجود . وكل هذا لم يكن بعيد عن التدبير الالهي وقد اعلن الشيطان حربه على مشروع الخلافة الانسانية في الارض (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) فكان الوعد الالهي لهذا العدو بالخسران والفناء (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)) فكانت من اعظم آثار تلك الثورة ومن أولى تلك الاثار أن حددت أولئك العباد المخلصين .
ومنذ بدء الخليقة وانطلاق مشروع السماء في التأسيس لتلك الخلافة واعلان الحرب من قبل الشيطان وجنوده على هذا المشروع كان تجري عملية التمهيد للواقعة الكبرى .. الواقعة الفصل بين الحقيقتين حقيقة الايمان وحقيقة الكفر والاستكبار فنجد أن الله ما بعث نبي او رسول الا وقد عرض عليه قضية الإمام الحسين عليه السلام وما سيجري عليه، ذلك العرض الذي يعطي لأولئك الانبياء والرسل القوة والعزيمة والصبر وعدم الجزع على ما سيجري عليهم وما سيحدث من تكذيب لهم وانحراف عن الصراط المستقيم، فان قضية قيام دولة العدل لن يحسم خلال مسيرتهم الرسالية، بل أن الواقعة الحاسمة هي في كربلاء، تلك التي ستخوضها النخبة المختارة من قبل السماء لحسم المعركة الوجودية التي ستجتمع فيها كل الرسالات وكل الانبياء في شخص الحسين عليه السلام وعياله وانصاره ليبرز الايمان كله الى الشرك كله .
فهذا آدم عليه السلام يتلقى كلمات من ربه لينكسر قلبه حزيناً حين يذكر اسم الحسين عليه السلام حين رأى ساق العرش وأسماء النبي والأئمة عليهم السلام فلقنه جبرئيل أن قل : يا حميد بحق محمد ، يا عالي بحق علي ، يا فاطر بحق فاطمة ، يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان . فلما ذكر الحسين سالت دموعه وخشع قلبه ، وقال : يا أخي جبرئيل في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي ؟ قال جبرئيل : ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب ، فقال : يا أخي وما هي ؟ قال : يقتل عطشانا غريبا وحيدا فريدا ليس له ناصر ولا معين ، ولو تراه يا آدم وهو يقول : واعطشاه وآ قلة ناصراه ، حتى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فلم يجبه أحد إلا بالسيوف، وشرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، وينهب رحله أعداؤه وتشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان، ومعهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنان، فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى. فكان اول مأتم يقيمه الانبياء على الحسين عليه السلام في رحلة التدبير اللهي لمشروع الخلافة في ارضه وملكه العظيم .
وهذا نبي الله نوح عليه السلام يقيم مأتم الحسين عليه السلام وذلك لما وصلت السفينة فوق أرض كربلاء ومحل طوفان سفينة أهل البيت عليهم السلام ، أخذتها الأرض فخاف نوح الغرق ، فقال : إلهي طفت الدّنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض . فنزل جبرائيل عليه السلام بقضية الحسين عليه السلام ، وقال يقتل في هذا الموضع، فبكى نوح عليه السلام وأصحاب السفينة ، ولعنوا قاتله ومضوا.
وهكذا بقية الانبياء عليهم السلام الواحد تلو الآخر ما كانت لتتم رحلته مع رسالة ربه الا بالمرور على قضية الحسين عليه السلام لا ليؤكد على التصبر في تلك الرحلة الشاقة بالحسين عليه السلام ومصيبته فحسب بل للإعداد  لتلك الواقعة الفصل .. تلك الواقعة التي ستدق الركيزة المحورية في تثبيت مشروع السماء الذي سيختم بإقامة دولة العدل الالهي .
وعلى يد الرسول العظيم كان بداية التمهيد وبداية الثورة الحسينية الحقيقية حيث بُعث الرسول محمد صلّ الله عليه وآله في بيئة كفر وشرك وجاهلية مقيتة مما جعل من مهمته الرسالية شاقة ومعقدة فكانت يد القدرة تدبر الامر كله للتعامل مع دسائس الشيطان وجنوده من المنافقين فكان صلّ الله عليه وآله يمهد لتلك الثورة بتشريع الولاية من بعده لخليفته أمير المؤمنين وابناءه المعصومين ومنهما الحسن والحسين عليهم السلام لإقامة الحجة في شرعية اي ثورة للدفاع عن تلك الولاية .
ولتوسيع دائرة البدائل الاستراتيجية التزاماً بقاعدة الاسباب والمسببات في التعامل مع كيد الشيطان ومؤامرات المنافقين التي تجتهد لاغتيال ذلك المشروع فكان مما قاله بحقهم عليهم السلام: الحسن والحسين إماما حق قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما . أي ان على الأمة وجوب طاعتهم سواء كانوا يحكمون في دولة ظاهرة أو لا، فضلاً عن عشرات الاحاديث التي وردت عنه صلّ الله عليه وآله تؤكد هذا المفهوم وهنا وبعد وفاة النبي محمد صلّ الله عليه وآله كانت قد لاحت الفرصة لمحو هذا المشروع من الوجود وقد بانت تباشير انتصارهم .. ولكن أنى لهم ذلك والتدبير الإلهي يحيط بهم علماً وقدرة حيث كانت كل الخيارات متاحة أمام امير المؤمنين عليهم السلام لتحقيق الغاية بتأسيس دولة الحق في قلب كل انسان طوعاً ورضى وليس دولة ظاهرة في كيانها وحدودها فقط بل تعد الثانية نتيجة حتمية للأولى لا تتحقق دونها.
فبدأت حلقة جديدة في دائرة الصراع وكان امير المؤمنين علي عليهم السلام يدير كل شيء بروية وهدوء ويؤسس لكل ما سيجري من بعده دون أن يقف عند قضية دفعه عن الاستمرار بقيام دولة الرسول العادلة وقيادتها وقد شعر المنافقون بالبعد العميق والتدبير العظيم الذي تكفل به امير المؤمنين عليهم السلام الذي يملك إرثاً ضخماً من وصاياً الرسول صلّ الله عليه وآله بكونه هو الاعلم والاحكم والأروع وهو حبل الله وعروته الوثقى وهو مدينة العلم والقائد المظفر بالنصر, والمدعوم أيضاً بنصوص قرآنية وإعلان رسمي بتوليه لمنصب إمامة الامة وقيادتها {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }المائدة55.  
وهكذا وبعد أن تخاذل الناس عن أمير المؤمنين عليهم السلام وعن نصرته فما كان منه عليهم السلام إلا أن يعتزل الناس في تحفظ ذكي بل وعبقري من أمير المؤمنين عليهم السلام لتثبيت حقيقة بطلان حكم هؤلاء وسطوهم على كرسي قيادة الامة الاسلامية , مما جعل من تسلق اليها بغير حق يدرك ان بقاء ممانعة الامام أمير المؤمنين عليهم السلام وعدم اعترافه بسلطتهم يجعلهم على شفى الهاوية, اذ لا يمكن إحراز بقاء الناس تحت سلطانهم المسروق في الوقت الذي لا يزال أمير المؤمنين عليهم السلام موجوداً بين احضان أمّة أخيه رسول الله صلّ الله عليه وآله. فكانت إرادة المنافقين تنحصر في القضاء المبرم على أمير المؤمنين عليهم السلام محاولين وبشتى السبل التخلص منه فلم يجدوا الى ذلك سبيلا.
وهنا وصل بهم التسافل الذي لم يكن يراعي أي اعتبار لأخلاقيات العرب فضلاً عن القيم الإسلامية التي كان يدّعونها , سالكين سبيلاً لا يمكن لأمير المؤمنين عليهم السلام إلى أن يقع في حبائل هذا المخطط وفق الرؤيا القاصرة لأولئك المنافقين لدفعه عليهم السلام الى سلِّ سيفه لأجل إيجاد الحجة لقتله وبذلك يكون الطريق ممهداً لإنهاء المشروع الالهي.
فكانت الزهراء عليهم السلام الضحية لهذا المخطط  في جرأة واضحة على الاسلام وعلى الله وعلى رسوله صلّ الله عليه وآله. فتهافت المنافقون على دارها محاولين إحراق الدار مستفزين أمير المؤمنين عليهم السلام في عرضه وعرض رسول الله صلّ الله عليه وآله ضناً منهم أنه سلام الله عليه سيجرد فيهم سيفه ليقولوا خرج علي على الخلافة وبذلك يألبوا الناس على قتله كي يتحقق المراد من هذا الفعل، ولكن خاب فألهم وخسروا خسراناً عظيما فبفعلهم هذا نجح أمير المؤمنين عليه  السلام في كشف وإثبات حقيقة هؤلاء وحقيقة الغدر برسول الله صلّ الله عليه وآله الذي كثيراً ما قال في شأن الزهراء عليه  السلام ما يثبت ارتباطها بالأسرار الالهية.
وهكذا أخذوا بيعة من أمير المؤمنين ما أرادوها أن تكون لأنها بيعة بالإكراه وبشكل واضح وبين جماهير المسلمين مما أسس أول ارتباط حقيقي برسول الله ورسالة السماء بشكل واضح لا لبس فيه عبر علي ابن ابي طالب عليه  السلام.
واستمرت بعد ذلك دوران رحى الحرب الباردة بين اتباع مشروع دولة السماء وبين اتباع مشاريع الرغبات الشخصية وعشاق الدنيا فكانت الفجوة تزداد بتغير الشخوص في رأس قيادة الدولة الموروثة عن رسول الله حتى وصل الأمر الى الخليفة الثالث وازداد الضغط الجماهيري نتيجة ازدياد الانحراف عن المسار الذي رسمته السماء لبناء الدولة العادلة فكانت تلك الثورة التصحيحية لتأتي بعلي ابن ابي طالب عليه  السلام الى مقعد الخلافة الرسمي بانتخاب جماهيري وبإرادة ذات الشعب الذي تخاذل عن نصرته فوجد امير المؤمنين عليه  السلام تركة صعبة وتمرد عنيف من هنا وهناك فمرة يقاتل الناكثين واخرى يواجه القاسطين ليختم جهاده بحرب المارقين, كل هذا وعينه على الخاتمة، وهو يمهد لذلك وفق الظروف والمستجدات ووفق افضل الخيارات الاستراتيجية لديمومة المشروع لينهي حياته في رحاب الله وفي فيض ملكوته وهنا وجدت الأمة نفسها على مفترق طرق في الوقت الذي لايزال معاوية ينهش جسد الأمة التي بذل امير المؤمنين عليه  السلام مهجته في لملمة اوصالها، في الوقت الذي تمكن حب الدنيا من سلب قلوب الرجال واذابت عقولهم وهنا كان التدبير من الإمام الحسن عليه  السلام في التهيئة للثورة وفق القواعد الجديدة بعد ابتعاد الناس عن شريعة السماء وانصياعهم لشيطان النفوس وبيعهم لآخرتهم بدنيا غيرهم، فكانت الهدنة بينه وبين رأس الشر معاوية والتي كانت نتيجة الظروف آنفة الذكر ليؤسس عليه  السلام لشرعية ثورة كربلاء من وجهين لا يمكن لأحد تجاوزهما، الاول هو شرعية السماء بوصية الرسول الكريم في خلفاء الأمة الاثني عشر، والثاني شرعية الاتفاق والعهود والزام المرء بما الزم به نفسه حيث كانت الهدنة قد جردت دولة الشر من شرعية بقاءها وان ضمنت لها وجوداً دنيوياً مؤقتاً حتمته الظروف آنفة الذكر ولكنها زائلة بزوال ملك معاوية .
وهذا ما دفع معاوية الى التعجيل بالتخلص من الإمام الحسن عليه  السلام وهذا لم يكن ينفعه في تغيير بنود تلك الهدنة التي نزعت عن معاوية حق الوصاية من بعده بل لم يكن له ذلك كي تنزعه عنه والولاية لله ولرسوله ولأولي الأمر حيث اوجبت عودة الخلافة الى الامام الحسن أو الحسين عليهما  السلام.
وبهذا كانت الهدنة الموقعة قد وضعت واحدة من ركائز نسف دولة الشيطان والتأسيس لدولة العدل عبر الخيار الاستراتيجي الثوري متمثلاً بثورة الشهادة التي قادها الإمام الحسين عليه  السلام إذ أن هذا الخيار كان يحمل ابعاداً استراتيجية عميقة الأثر والتي لانزال حتى يومنا هذا نعيش في ظل آثارها .
حيث أن هذا الخيار لم يكن ترفاً ولم يأتي كردة فعل عاطفية بل كان نتيجة حتمية للانحراف الكبير الذي وصلت اليه الطغمة الأموية الحاكمة حيث الاستهتار بالقيم الدينية الاساسية التي تمثل شخصية الدولة الاسلامية مما جعل من ضرورة التصدي لهذا الانحراف بذات المستوى أمراً لا بديل له ، فكان لابد من تلك الدماء الطاهرة وذلك السبي لحرم رسول الأمة لكشف حقيقة تمرد الاموين وخروجهم عن الاسلام بشكل صريح ولإسقاط شرعية تلك الدولة كدولة اسلامية حيث كان ذلك اهم واعظم النتائج المتحققة من الثورة، إذ أن نزع صبغة الاسلام عن تلك الدولة كان يؤدي الى تسليط الضوء على الدولة الشرعية التي كانت قائمة حينها وبقيادة أئمة الأمة المنصبين من قبل الله حيث كانت تمثل دولة الظل التي يتوجب على الناس الاقرار بوجودها والامتثال الى توجيهاتها عن ايمان وقناعة حيث تمثل الحاكمية الالهية الوحيدة على وجه الأرض .
نعم فقد حققت ثورة الامام الحسين عليه  السلام اهدافها الخالدة بتثبيت حقيقة ما اسس له الرسول العظيم صلّ الله عليه وآله في يوم الغدير لتظهر معالم الدولة الخفية ونظمها وآليات العمل فيها وآثار وجودها وامتداداتها وعمق ارتباطها بالسماء وكيفية الحياة في ظلها وكذا قوانينها الحاكمة ومصادرها التشريعية، كما قد حددت السبل والبدائل الاستراتيجية في التعامل مع الدول الظاهرة والفاقدة للشرعية الالهية في ظل التمهيد لإعلان ظهور الدولة الخفية على يد آخر الخلفاء الإمام الحجة المنتظر عليه السلام, حيث منعت الخروج لتأسيس الدولة الظاهرة أو الحكم باسم الله في دولة ظاهرة قبل تحقق كل الظروف الاجتماعية والسياسية وعلى المستوى الكوني, وبينت أن تحقق هذا يكون في عهد الإمام المهدي عجل الله فرجه وحين تحقق ذلك سيبادر الى اعلان ثورته مستنداً الى ثورة جده الإمام الحسين عليه السلام وبذات الشعارات الاصلاحية التي كانت وستبقى متجددة في كل عصر ومع كل نظام, وكما وبينت الحدود التي يمكن لرعايا تلك الدولة الخفية العمل في إطارها للدفاع عن وجودهم القيمي والاجتماعي ودفع الظلم عنهم بما لا يتجاوز حد الالتزام بقواعد العمل الشرعية في تلك الدولة.
وهكذا فقد كانت ثورة الإمام الحسين عليه السلام خالدة بتأسيسها لديمومة وجود الدولة الالهية بشكلها الخفي مما سلب من اعدائها أدوات اعلان الحرب على هذه الدولة وكذا سلب منهم شرعية وجودهم كدول حاكمة بالقهر والاجبار, ومما تقدم نستنتج العمق الاستراتيجي لثورة الامام الحسين عليه السلام وما احاط بها من تدبير وحماية الهية حتى يأتي اليوم الموعود لقيام دولة العدل وفرض سلطانها العادل لتملئ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجورا.