في خضم الصراع الانتخابي الذي وصل في بعض
الاحيان الى درجة الضرب تحت الحزام ما بين المتنافسين وكأن البعض منهم يرى انه
يخوض نزال حياة أو موت حتى صار الناخب العراقي يشعر بحالة من التيه ولا يدري من
ينتخب حيث كثرت الوعود وارتفع مستوى الشعارات الطنانة التي تتغنى بالمستقبل المشرق
والحياة المثالية في عالم اقرب ما يكون الى عالم ملكوتي .. في ذات الوقت حينما
تسأل المرشح عن برنامجه الانتخابي أو برنامج الكتلة التي ينتمي لها يسرد لك كل تلك
الوعود والشعارات التي تحدثنا عنها دون الالتفات الى مدى امكانية تطبيق كل تلك
الشعارات ولا الى الادوات التي سيعمل عليها لغرض تحقيق تلك النتائج التي يعد بها
ومدى ملائمتها للوضع العراقي في مختلف جوانبه الأمنية والسياسية والاقتصادية فضلاً
عن الواقع الاجتماعي.
لذا بات من الضروري ان نتحدث عن مفهوم
البرنامج الانتخابي والخطوط العريضة التي ينبغي العمل عليها في أي برنامج من هذا
القبيل.
قبل البدء بالحديث عن تفاصل ومحتويات
البرنامج الانتخابي لابد لنا ان ندرك طبيعة العمل والصلاحيات التي يملكها صاحب
البرنامج ففي الوضع العراقي فان التنافس في الانتخابات يجمع ما بين السلطتين
التشريعية والتنفيذية أي أن من يفوز بأغلبية اصوات الناخبين يكون ملزم بالوعود
التي قطعها كونه قد فاز بالسلطتين التشريعية والتنفيذية حيث ان الاغلبية في
البرلمان هي التي تشكل الحكومة وهي القادرة على تمرير مشاريع القوانين التي تولد
في الرحم الحكومي
لذا على اصحاب البرامج الانتخابية في العراق
ان تكون برامجهم اكثر شمولية وان يبني البرنامج على سلسلة من الخطوات المتتابعة
ولكن قبل الحديث عن تلك الخطوات علينا ان ندرك أن البرنامج الانتخابي هي خطة شاملة
لإدارة البلد خلال السنوات الأربع القادمة علماً ان من الافضل ان يكون الطموح أكبر
ليمتد على مدى ابعد من فترة انتخابية واحدة واضعا رؤية شاملة لما يريد تحقيقه
وكذلك السياسات والاستراتيجيات التي سيعمل بها لتحقيق تلك الرؤية ، وهنا قد يقول
قائل ان الخطط الاستراتيجية القومية لأي دولة تضعها المؤسسات المختصة بذلك وهذا
صحيح ولكن علينا ان ندرك أن تلك المؤسسات تضع الخطط التفصيلية الدقيقة لكل مفصل من
مفاصل الدولة واما الرؤية الشاملة فهي تكون بناءً على التوجهات الحكومية للقوى
السياسية الحاكمة على تلك المؤسسات وبناءً على ما تقدم ولوضع برنامج انتخابي ناجح
ويتفق مع الواقع لابد من اتباع الخطوات التالية
الخطوة الاولى : دراسة تطلعات المجتمع ، ففي
النهاية الأهداف التي يراد تحقيقها من المفترض ان تحقق رضى افراد ذلك المجتمع فإن
لم تكن تلك الاهداف متوافقة مع تطلعاته لم ولن تحقق له الرضا المنشود ، وهذا يعني
لابد من دراسة تلك التطلعات لكافة فئات المجتمع دون التفريق بين طبقاته سواء كانت
فقيرة جداً أو برجوازية فضلاً الطبقات الوسطى على لا يقتصر الامر في تقسيم المجتمع
اثناء دراسة تلك التطلعات على الفروقات الطبقية بل لابد من الاخذ بنظر الاعتبار
التنوعات والتباينات الاخرى على مستوى الجنس والعمر والمهنة بحيث لابد ان تكون
هناك موائمة بين تلك التطلعات وأن لا يحدث التقاطع بينها بحيث تؤسس لمنظومة
اجتماعية متفاعلة ايجابياً وبناءة .
الخطوة الثانية: توضيح النظريات والمسارات
الفكرية ، إن اي اجراءات تنفيذية لابد ان تبتني على اسس نظرية واضحة فمثلاً حينما
نتحدث عن تطوير الجانب الاقتصادي والمالي فماهي النظريات التي ستعتمدها في هذا
التطوير هل سيتم اعتماد النظرية الرأسمالية او غير ذلك من نظريات سواء الاشتراكية
أو الاسلامية وهذا سيترك آثاره الواسعة على الاقتصاد فاقتصاد السوق والانفتاح على
العالم يختلف عن السيطرة الحكومية على السوق والتحكم بحركته ...
الخطوة الثالثة : تحليل البيئة الداخلية
والخارجية للدولة وتحديد اهم عناصر القوة في البيئة الداخلية التي يمكن الارتكاز
والبناء عليها وفي مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع التفحص
الدقيق لعوامل الضعف التي من الممكن عوائق واقعية لا يمكن التخلص منها في الافق
المنظور والتي تعرقل تحقق الاهداف ان لم تلحظ بعين الاعتبار تلك العوامل هذا فضلاً
عن دراسة البيئة الخارجية سواء كانت في المحيط الاقليمي والعالمي أو ضمن المحيط
الوطني ولكن خارج سيطرة المنظومة الحكومية لغرض تجنيد تلك الفرص غن كانت متوفرة في
خدمة الاهداف التي ستوضع لاحقاً وفقاً لهذه العوامل الاستراتيجية سواء في البيئة
الداخلية أو الخارجية فضلاً عن تحديد التهديدات ووضع الاحترازية مع التحرك للتقليل
من أثر تلك التهديدات التي قد تحول دون الوصول الى تحقيق الاهداف المنشودة .
الخطوة الرابعة : بعد دراسة البيئتين
الداخلية والخارجية يتم تدوين أهم عوامل الازدهار والتأزم المحتملة ووضع الأولويات
الاستراتيجية والتحديات الاستراتيجية بناءً على نتائج الخطوة السابقة .
الخطوة الخامسة : البدء بوضع الاهداف
والاتجاهات والسياسات والاجراءات والتصورات المزمع القيام بتنفيذها خلال المرحلة
التي ستشغل فيها القائمة أو الحزب مقاليد الحكومة التنفيذية والاغلبية البرلمانية
مع الالتفات الى أنه في حال فشلت القائمة من الوصول الى الاغلبية وعدم تمكنها من
تشكيل الحكومة فهذا لا يعني بأي شكل من الاشكال إخلاء مسؤوليتها عن السعي في تحقيق
فقرات برنامجها الانتخابي سواء عبر الحوار والتفاوض والاقناع أو عبر تشكيل
التحالفات الانتخابية أو عبر تحشيد الرأي العام لتشكل قوة ضاغطة باتجاه تنفيذ
اهدافها أو بعض تلك الاهداف على أقل تقدير.
هذا ويمكن صياغة هيكل الاهداف الاستراتيجية
المزمع تحقيقها وفق البرامج الانتخابية عبر توزيعها على ثلاث محاور أساسية وكالآتي
أولاً : السياسات الاقتصادية ، ويقع تحت هذا
البند جميع القضايا والملفات المتعلقة بالنظام الضريبي والنظام المصرفي والاستثمار
الاجنبي والمحلي والسياسات الاقتصادية المرتبطة بالتجارة والصناعة والزراعة وفي ما
يخص بلد مثل العراق فان لملف النفط والغاز أولوية استراتيجية وضرورة تحديد
التوجهات في هذا الملف فيما اذا سيكون باتجاه زيادة الانتاج النفطي الخام أم تثبيت
الانتاج مع التركيز على زيادة انتاج المشتقات النفطية وغيرها من القضايا
الاقتصادية المتشعبة.
ثانياً : السياسات الاجتماعية ، ويقع تحت هذا
البند الكثير من الملفات المهمة من قبيل ملف التربية والتعليم العالي والملف الصحي
والبيئي وقضايا الفقر والضمان الاجتماعي وتشغيل واستثمار الموارد البشرية لحل
مشكلة البطالة ومعالجة الازمات النوعية الاخرى من قبيل ازمة العنوسة والطلاق والترمل
في دولة مثل العراق وازمة الخلافات العشائرية وهذه ملفات خاصة تحتاج الى حلول
جذرية كي لا تتحول الى قضايا مركبة ومعقدة يصعب حلها.
ثالثاً : العلاقات الدولية ، ولهذا البند من
الأهمية ماله كونه يعمل كأحد الوسائل الاستراتيجية لخدمة تحقيق الاهداف والغايات
ضمن المحورين السابقين ، نعم فلا بد من ان تكون طبيعة العلاقات الدولية محسوبة
بعناية فائقة بحيث تصب في تحقيق تلك الغايات فتقدم مصلحة البلد والشعب على مصالح
الآخرين دون الاضرار بمصالح أولئك الآخرين كي لا تتحول تلك العلاقات القوية الى
علاقات رخوة قابلة للانهيار في أي اختبار قد تتعرض له أو أزمة مفاجئة فمثلاً في
حالة العراق فان بعض القوى تذهب باتجاه الانخراط كذنب ضمن التحالف الايراني الروسي
حتى أنهم لم يلتفتوا الى أن يكوا كأحد الرؤوس المدبرة لمثل هذا التحالف في قبال
ذلك نجد قوى أخرى ترى ضرورة بناء علاقات ايجابية مع جميع القوى العالمية على أساس
أن مصلحة العراق أولاً والابتعاد عن سياسة المحاور وتصفير واغلاق المشاكل والملفات
العالقة التي تحول دون مد الجسور وبناء العلاقات التي تصب في صالح تحقيق الرؤيتين
الاجتماعية والاقتصادية .
هذا وفي حالة دولة مثل العراق تعيش وضع غير مستقر
وبناء على الخطوة الأولى من البرنامج المتعلقة بدراسة تطلعات الراي العام قد تتولد
الحاجة الى اضافة محاور أخرى تعد اساسية في مثل هذه المرحلة وكالآتي .
أولاً : الملف الدستوري ، حيث أن واحدة من
أهم الاشكالات التي يعيشها العراق الآن هي الاليات الدستورية لتشكيل الحكومة إذ
بات الغالبية العظمى من ابناء الشعب يرغبون بالنظام الرئاسي بعد أن وجدوا انفسهم
ضائعين في ظل النظام الانتخابي الحالي هذا فضلاً عن مشاكل دستورية أخرى فيما يتعلق
بطبيعة العلاقة بين حكومة المركز والاقاليم الفيدرالية وطبيعة الصلاحيات والسلطات
التي تمنح لحكومات تلك الاقاليم اضافة الى مشكلة المناطق المتنازع عليها والتي
باتت كالنار تحت الرماد من الممكن أن تشتعل في حال أصبح الظرف مؤاتي لهذه الجهة أو
تلك، وغيرها من الاشكالات الدستورية التي يجب على كل قائمة ذات برنامج انتخابي ان
توضح رؤيتها فيما يتعلق بمثل هذه الموضوعات.
ثانياً : الملف الامني ، حيث نجد اليوم حالة
من الفوضى الامنية التي تضرب العراق طولاً وعرضاً وقد نجد هذه البحبوحة المؤقتة من
الاستقرار الوهمي الذي تكون نتيجة التوافق بين القوى الأمنية الحاكمة وتوازن القوى
ولكن إن اختل التوازن في ميزان القوة فسنقبل على صراعات تعيد البلاد الى المربع
الأول ايام الارهاب والحرب الأهلية إذ نجد المليشيات الحزبية متسلحة بمختلف انواع
الاسلحة الثقيلة فضلاً عن الخفيفة وهي خارج سلطة الدولة وكذلك اليوم نجد قوى
اجنبية متغلغلة في مؤسسات أمنية من المفترض أن تكون وطنية في حين نجد أن فيلق
القدس الايراني بقيادة قاسم سليماني له القرار في تحريك تلك القوى وهناك شواهد
تاريخية تثبت ذلك في معركة اقتحام تكريت وغيرها من الشواهد والدلائل ، لذا لابد ان
تعلن كل القوائم ضمن برنامجها الانتخابي وجهة نظرها بشكل تفصيلي دون الاكتفاء برفع
شعار حصر السلاح بيد الدولة فكما قلنا فان هناك قوة تابعة لدولة اجنبية ضمن القوات
الأمنية الوطنية.
ثالثاً : ملف الفساد ، وهذا يعد من أهم
الملفات وأكثرها خطورة وهو الملف الذي يحتاج الى توضيح عميق للسياسات والأساليب
التي سيتم اتباعها في محاربة الفساد ولا يكفي فقط رفع شعار محاربة الفساد كونه بات
شعاراً مبتذلاً للغاية ، لذا من الضروري توضيح الآليات ابتداء بملفات الفساد
المقننة بقوانين من قبيل مخصصات ومرتبات البرلمانيين والرؤساء والوزراء والحمايات
والمنح المتعلقة بتحسين الواقع المعيشي لأولئك البرلمانيين، وصولاً الى الكيفية
التي سيتم بها ملاحقة السرقات الكبرى وخاصة تلك التي تم تمريرها عبر قانون العفو
العام وما شابه ذلك
وفقاً لكل ما تقدم شرحه لا يمكن وضع برنامج
انتخابي بين ليلة وضحاها وهذا ما تابعته من قبل بعض المرشحين حيث نجد البعض يحاول
كتابه برنامجه الانتخابي وفق أوهام وخيالات التي لا تستند على أسس موضوعية
ومعلومات وبيانات احصائية دقيقة .. لذا فلا يمكن أن يكون البرنامج الانتخابي ملامس
لحقيقة تطلعات المجتمع ويأخذ بنظر الاعتبار كل الحقائق الموضوعية في بيئة ذلك
المجتمع ليكون الحزب قادراً بحق على تحقيق تلك الغايات والاهداف التي يعد بها
جماهيره.